فصل: من لطائف وفوائد المفسرين:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



والنبأ: الخبر المهم، وتقدّم في هذه السورة.
فيجوز أن يكون على حقيقته، أي لكلّ خبر من أخبار القرآن، ويجوز أن يكون أطلق المصدر على اسم المفعول، أي لكلّ مخبَر به، أي ما أخبِروا به من قوله: {أن يبعث عليكم عذابًا من فوقكم} [الأنعام: 65] الآية.
والمستقرّ وقت الاستقرار، فهو اسم زمانِه، ولذلك صيغ بوزن اسم المفعول، كما هو قياس صوغ اسم الزمان المشتقّ من غير الثلاثي.
والاستقرار بمعنى الحصول، أي لكلّ موعود به وقت يحصل فيه.
وهذا تحقيق للوعيد وتفويض زمانه إلى علم الله تعالى.
وقد يكون المستقرّ هنا مستعملًا في الانتهاء والغاية مجازًا، كقوله تعالى: {والشمس تجري لمستقرّ لها} [يس: 38]، وهو شامل لوعيد الآخرة ووعيد الدنيا ولكلَ مستقرّ.
وعن السّدّي: استقرّ يوم بدر ما كان يَعِدهم به من العذاب.
وعطف {سوف تعلمون} على جملة {لكلّ نبأ مستقرّ} أي تعلمونه، أي هو الآن غير معلوم وتعلمونه في المستقبل عند حلوله بكم.
وهذا أظهر في وعيد العذاب في الدنيا. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

.من لطائف القشيري في الآيتين:

قال عليه الرحمة:
{وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (66) لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (67)} يعني قل لهم إنما على تبليغ الرسالة، فأمَّا تحقيق الوصلة بالوجود والحال فَمِنْ خصائص القدرة وأحكام المشيئة الأزلية. اهـ.

.من فوائد صاحب المنار في الآيات السابقة:

قال رحمه الله:
{قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً}.
أَمَرَ اللهُ تَعَالَى رَسُولَهُ فِي الْآيَاتِ السَّابِقَةِ أَنْ يُبَيِّنَ لِعِبَادِهِ إِحَاطَةَ عِلْمِهِ وَشُمُولَ قُدْرَتِهِ، وَاسْتِعْلَاءَهُ عَلَيْهِمْ بِالْقَهْرِ، وَحِفْظَهُ أَعْمَالَهُمْ عَلَيْهِمْ، وَكَوْنَهُ هُوَ مَوْلَاهُمُ الْحَقَّ الَّذِي يُحَاسِبُهُمْ وَيُجَازِيهِمْ عَلَيْهَا بَعْدَ أَنْ يُمِيتَهُمْ ثُمَّ يَبْعَثَهُمْ. ثُمَّ أَمَرَهُ بِهَذَا الْقَوْلِ أَنْ يُذَكِّرَهُمْ بِشَيْءٍ يَجِدُونَهُ فِي أَنْفُسِهِمْ وَيَقُولُونَهُ بِأَفْوَاهِهِمْ، وَيَغْفُلُونَ عَمَّا يَسْتَلْزِمُهُ مِنْ كَوْنِ اللهِ تَعَالَى هُوَ مَوْلَاهُمُ الْحَقَّ الَّذِي يَجِبُ تَوْحِيدُهُ وَإِفْرَادُهُ بِالْعِبَادَةِ، وَلاسيما مَظْهَرَهَا الْأَعْلَى وَهُوَ الدُّعَاءُ فِي الرَّخَاءِ كَالدُّعَاءِ فِي الشِّدَّةِ، فَقَالَ: {قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً} ظُلُمَاتُ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قِسْمَانِ: ظُلُمَاتٌ حِسِّيَّةٌ كَظُلْمَةِ اللَّيْلِ وَظُلْمَةِ السَّحَابِ وَظُلْمَةِ الْمَطَرِ، وَظُلُمَاتٌ مَعْنَوِيَّةٌ كَظُلْمَةِ الْجَهْلِ بِالطُّرُقِ وَالْمَسَالِكِ، وَظُلْمَةُ فَقْدِ الصُّوَى وَالْمَنَارِ، أَوِ اشْتِبَاهِ الْأَعْلَامِ وَالْآثَارِ، وَظُلْمَةُ الشَّدَائِدِ وَالْأَخْطَارِ، كَالْعَوَاطِفِ وَالْأَعَاصِيرِ وَهِيَاجِ الْبِحَارِ، أَوْ مُسَاوَرَةِ الْأَفَاعِي وَالسِّبَاعِ، أَوْ مُكَافَحَةِ الْعَدَدِ الْكَثِيرِ مِنَ الْأَعْدَاءِ، وَتَسْمِيَةُ هَذِهِ الْأُمُورِ الْمَعْنَوِيَّةِ ظُلُمَاتٍ مِنَ الْمَجَازِ كَتَسْمِيَةِ الْجَهْلِ وَالْكُفْرِ وَالضَّلَالِ بِذَلِكَ- وَهُوَ كَثِيرٌ فِي التَّنْزِيلِ- وَنَقَلُوا أَنَّهُ قِيلَ لِلْيَوْمِ الشَّدِيدِ يَوْمٌ مُظْلِمٌ وَيَوْمٌ ذُو كَوَاكِبَ. وَأَقُولُ: لَا يَصِحُّ إِطْلَاقُ الظُّلْمَةِ عَلَى كُلِّ شِدَّةٍ، بَلْ عَلَى الشِّدَّةِ الَّتِي لَهَا عَاقِبَةً سَيِّئَةً مَجْهُولَةً تُخْشَى وَلَا تُعْلَمُ، فَهُوَ يَرْجِعُ إِلَى مَعْنَى الْجَهْلِ. وَالتَّضَرُّعُ: الْمُبَالَغَةُ فِي الضَّرَاعَةِ وَهِيَ الذُّلُّ وَالْخُضُوعُ، وَقَالَ الرَّاغِبُ: هُوَ إِظْهَارُ الضَّرَاعَةِ بَعْدَ أَنْ فَسَّرَهَا بِالضَّعْفِ وَالذُّلِّ، وَالْإِظْهَارُ قَدْ يَكُونُ إِظْهَارُ مَا هُوَ وَاقِعٌ وَقَدْ يَكُونُ إِظْهَارُ مَا هُوَ غَيْرُ وَاقِعٍ عَلَى سَبِيلِ الرِّيَاءِ، وَالْمُرَادُ بِالتَّضَرُّعِ هُنَا مَا هُوَ صَادِرٌ عَنِ الْإِخْلَاصِ الَّذِي يُثِيرُهُ الْإِيمَانُ الْفِطْرِيُّ الْمَطْوِيُّ فِي أَنْفُسِ الْبَشَرِ. وَالْخُفْيَةُ- بِالضَّمِّ وَالْكَسْرِ- الْخَفَاءُ وَالِاسْتِتَارُ، فَإِذَا كَانَ التَّضَرُّعُ إِظْهَارُ الْحَاجَةِ إِلَى اللهِ تَعَالَى، وَالتَّذَلُّلُ لَهُ بِالْجَهْرِ وَالدُّعَاءِ، وَرَفْعُ الصَّوْتِ بِهِ مَعَ الْبُكَاءِ- فَالْخُفْيَةُ فِي الدُّعَاءِ عِبَارَةٌ عَنْ إِسْرَارِهِ هَرَبًا مِنَ الرِّيَاءِ، وَهَاتَانِ حَالَتَانِ تَعْرِضَانِ لِلْإِنْسَانِ عِنْدَ شُعُورِهِ بِالْحَاجَةِ إِلَى اللهِ تَعَالَى وَيَأْسِهِ مِنَ الْأَسْبَابِ؛ تَارَةً يَجْأَرُ بِالدُّعَاءِ رَافِعًا صَوْتَهُ مُتَضَرِّعًا مُبْتَهِلًا، وَتَارَةً يُسِرُّ الدُّعَاءَ وَيُخْفِيهِ مُخْلِصًا مُحْتَسِبًا، وَيَتَحَرَّى أَلَّا تَسْمَعَهُ أُذُنٌ، وَلَا يَعْلَمَ بِهِ أَحَدٌ، وَيَرَى أَنَّهُ يَكُونُ بِذَلِكَ أَجْدَرَ بِالْقَبُولِ، وَأَرْجَى لِنِيلِ السُّؤْلَ، وَالْمَعْنَى: قُلْ أَيُّهَا الرَّسُولُ لِهَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ الْغَافِلِينَ عَنْ أَنْفُسِهِمْ وَمَا أُودِعَ مِنْ آيَاتِ التَّوْحِيدِ فِي أَعْمَالِ فِطْرَتِهِمْ: مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ الْحِسِّيَّةِ وَالْمَعْنَوِيَّةِ عِنْدَمَا تَغْشَاكُمْ فِي أَسْفَارِكُمْ حَالَ كَوْنِكُمْ تَدْعُونَهُ عِنْدَ وُقُوعِكُمْ فِي كُلِّ ظُلْمَةٍ مِنْهَا دُعَاءَ تَضَرُّعٍ وَدُعَاءَ خُفْيَةٍ قَائِلِينَ: {لَئِنْ أَنْجَانَا مِنْ هَذِهِ لِنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ} أَيْ مُقْسِمِينَ هَذَا الْقَسَمَ فِي دُعَائِكُمْ: لَئِنْ أَنْجَانَا اللهُ مِنْ هَذِهِ الظُّلْمَةِ أَوِ الدَّاهِيَةِ الْمُظْلِمَةِ لِنَكُونَنَّ مِنَ الْمُتَّصِفِينَ بِالشُّكْرِ الدَّائِمِ لَهُ، الْمُنْتَظِمِينَ فِي سِلْكِ أَهْلِهِ، وَفِي قِرَاءَةٍ {لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا} بِالْخِطَابِ وَسَيَأْتِي.
{قُلِ اللهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ} الْكَرْبُ: الْغَمُّ الشَّدِيدُ، مَأْخُوذٌ مِنْ كَرْبِ الْأَرْضَ، وَهُوَ إِثَارَتُهَا وَقَلْبُهَا بِالْحَفْرِ، إِذِ الْغَمُّ يُثِيرُ النَّفْسَ كَذَلِكَ، أَوْ مِنَ الْكَرَبِ (بِالتَّحْرِيكِ) وَهُوَ الْعِقْدُ الْغَلِيظُ فِي رِشَاءِ الدَّلْوِ (حَبْلُهُ) وَقَدْ يُوصَفُ الْغَمُّ بِأَنَّهُ عُقْدَةٌ عَلَى الْقَلْبِ، أَيْ لِمَا يَشْعُرُ بِهِ الْمَغْمُومُ مِنَ الضَّغْطِ عَلَى قَلْبِهِ وَالضِّيقِ فِي صَدْرِهِ، أَوْ مِنْ أَكْرَبْتُ الدَّلْوَ إِذَا مَلَأْتَهُ- أَفَادَهُ الرَّاغِبُ. وَالْمَعْنَى أَنَّ اللهَ يُنْجِيكُمُ الْمَرَّةَ بَعْدَ الْمَرَّةِ مِنْ تِلْكَ الظُّلُمَاتِ وَمَنْ كُلِّ كَرْبٍ يَعْرِضُ لَكُمْ، ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ بِهِ غَيْرَهُ بَعْدَ النَّجَاةِ أَقْبَحَ الشِّرْكِ مُخْلِفِي وَعْدَكُمْ لَهُ بِالشُّكْرِ، حَانِثِينَ بِمَا وَكَّدْتُمُوهُ بِهِ مِنَ الْيَمِينِ، مُوَاظِبِينَ عَلَى هَذَا الشِّرْكِ مُسْتَمِرِّينَ، لَا تَكَادُونَ تَنْسَوْنَهُ إِلَّا عِنْدَ ظُلْمَةِ الْخَطْبِ، وَشَدَّةِ الْكَرْبِ. وَأَجْلَى شِرْكِكُمْ أَنَّكُمْ تَدْعُونَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللهِ وَتُسْنِدُونَ إِلَيْهِمُ الْأَعْمَالَ إِنْ لَمْ يَكُنْ بِالِاسْتِقْلَالِ فَبِالشَّفَاعَةِ عِنْدَ اللهِ، حَتَّى إِنَّكُمْ لَا تَسْتَثْنَوْنَ مِنْهَا تِلْكَ النَّجَاةَ، وَهَذِهِ الْحُجَّةُ مِنْ أَبْلَغِ الْحُجَجِ لِمَنْ تَأَمَّلَهَا، وَلِذَلِكَ تَكَرَّرَ فِي التَّنْزِيلِ ذِكْرُهَا، وَطَالَمَا ذَكَرْنَاهَا فِي آيَاتِ التَّوْحِيدِ وَدَلَائِلِهِ، وَأَقْرَبُ بَسْطٍ لَهَا مَا أَوْرَدْنَاهُ فِي تَفْسِيرِ الْآيَتَيْنِ (40)، و(41) مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ، وَفِيهِ شَوَاهِدُ بِمَعْنَى هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ.
قَرَأَ عَاصِمٌ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ {يُنَجِّيكُمْ} بِالتَّشْدِيدِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ؛ مِنَ التَّنْجِيَةِ، وَالْبَاقُونَ بِالتَّخْفِيفِ فِيهِمَا؛ مِنَ الْإِنْجَاءِ وَهُمَا لُغَتَانِ فِي تَعْدِيَةٍ نَجَا يَنْجُو، يُقَالُ: نَجَّاهُ وَأَنْجَاهُ، وَنَطَقَ بِهِمَا الْقُرْآنُ فِي غَيْرِ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ أَيْضًا، وَلَكِنْ فِي التَّشْدِيدِ مِنَ الْمُبَالَغَةِ وَالدَّلَالَةِ عَلَى التَّكْرَارِ مَا لَيْسَ فِي التَّخْفِيفِ، وَقَرَأَ عَاصِمٌ فِي رِوَايَةِ أَبِي بَكْرٍ {خِفْيَةً} بِكَسْرِ الْخَاءِ وَالْبَاقُونَ بِضَمِّهَا وَهُمَا لُغَتَانِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَقَرَأَ عَاصِمٌ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ {أَنْجَانَا} عَلَى الْغَيْبَةِ، فَعَاصِمٌ فَخَّمَهَا وَالْآخَرُونَ قَرَءُوهَا بِالْإِمَالَةِ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ {أَنْجَيْتَنَا} عَلَى الْخِطَابِ، وَهِيَ مَرْسُومَةٌ فِي الْمُصْحَفِ الْإِمَامِ هَكَذَا {أَنْجَيْنَا} وَقِرَاءَةُ الْغَيْبَةِ أَقْوَى مُنَاسَبَةً لِلَّفْظِ، وَالْخِطَابُ أَشَدُّ تَأْثِيرًا فِي النَّفْسِ.
{قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ لِكُلِّ نَبَأٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ}.
ذَكَّرَ اللهُ تَعَالَى هَؤُلَاءِ النَّاسَ فِي الْآيَتَيْنِ السَّابِقَتَيْنِ بِبَعْضِ آيَاتِهِ فِي أَنْفُسِهِمْ، وَمِنَّتِهِ عَلَيْهِمْ فِي وَقَائِعِ أَحْوَالِهِمُ الَّتِي يَشْعُرُ بِهَا كُلُّ مَنْ وَقَعَتْ لَهُ مِنْهُمْ، وَكَوْنِهِ هُوَ الَّذِي يُنْجِيهِمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ وَالْكُرُوبِ وَالْأَهْوَالِ وَالْخُطُوبِ، إِمَّا بِتَسْخِيرِ الْأَسْبَابِ، وَإِمَّا بِدَقَائِقِ اللُّطْفِ وَالْإِلْهَامِ، ثُمَّ قَالَ: {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ} فَهَذَا تَذْكِيرٌ بِقُدْرَتِهِ عَلَى تَعْذِيبِهِمْ إِثْرَ التَّذْكِيرِ بِقُدْرَتِهِ عَلَى تَنْجِيَتِهِمْ، لَا فَرْقَ فِيهِمَا بَيْنَ أَفْرَادِهِمْ وَبَيْنَ مَجْمُوعِهِمْ وَجُمْلَتِهِمْ، وَإِنْذَارٌ بِأَنَّ عَاقِبَةَ كُفْرِ النِّعَمِ أَنْ تَزُولَ وَتَحِلَّ مَحَلَّهَا النِّقَمُ. وَالْمَعْنَى: قُلْ أَيُّهَا الرَّسُولُ لِقَوْمِكَ وَمَنْ وَرَاءَهُمْ مِنَ الْكَافِرِينَ بِنِعَمِ اللهِ، الَّذِينَ يُشْرِكُونَ بِهِ سِوَاهُ، وَلَا يَشْكُرُونَ لَهُ مَا مَنَّ بِهِ مِنَ النِّعَمِ وَأَسْدَاهُ، وَمِنَ الَّذِينَ يَتَنَكَّبُونَ سُنَنَ اللهِ، وَيَخْتَلِفُونَ فِي الْكِتَابِ بَعْدَ أَنْ هَدَاهُمْ بِهِ اللهُ: هُوَ اللهُ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يُثِيرَ وَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا تَجْهَلُونَ كُنْهَهُ فَيَصُبَّهُ عَلَيْكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ، أَوْ يُثِيرَهُ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ، أَوْ يَلْبِسَكُمْ وَيَخْلُطَكُمْ فِرَقًا وَشِيَعًا، مُخْتَلِفِينَ عَلَى أَهْوَاءٍ شَتَّى، كُلُّ فِرْقَةٍ مِنْكُمْ تُشَايِعُ إِمَامًا فِي الدِّينِ، أَوْ تَتَعَصَّبُ لِمَلِكٍ أَوْ رَئِيسٍ، وَيُذِيقُ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ وَهُوَ مَا عِنْدَهُ مِنَ الشِّدَّةِ وَالْمَكْرُوهِ فِي السِّلْمِ وَالْحَرْبِ. وَقَالَ صَاحِبُ الْكَشَّافِ بَعْدَ تَفْسِيرِ اللَّبْسِ بِالْخَلْطِ: وَمَعْنَى خَلَطَهُمْ: أَنْ يُنْشِبَ الْقِتَالَ بَيْنَهُمْ فَيَخْتَلِطُوا وَيَشْتَبِكُوا فِي مَلَاحِمِ الْقِتَالِ مِنْ قَوْلِهِ:
وَكَتِيبَةٍ لَبَّسْتُهَا بِكَتِيبَةٍ ** حَتَّى إِذَا الْتَبَسَتْ نَفَضْتُ لَهَا يَدِي

أَقُولُ: وَأَصْلُ مَعْنَى اللَّبْسِ التَّغْطِيَةُ، كَاللِّبَاسِ، وَهَذَا التَّفْرِيقُ وَالِاخْتِلَافُ بَيْنَ الشِّيَعِ كَالْغِطَاءِ، يَسْتُرُ عَنْ كُلِّ شِيعَةٍ مَا عَلَيْهِ الْأُخْرَى مِنَ الْحَقِّ، وَمَا فِي الِاتِّفَاقِ مَعَهَا مِنَ الْمَصْلَحَةِ وَالْخَيْرِ، وَلِمَادَّةِ (ش ي ع) ثَلَاثَةُ مَعَانٍ أَصْلِيَّةٍ فِي اللُّغَةِ:
أَحَدُهَا: الِانْتِشَارُ وَالتَّفَرُّقُ، وَمِنْهُ شَاعَ وَأَشَاعَ الْأَخْبَارَ، وَطَارَتْ نَفْسُهُ شُعَاعًا.
ثَانِيهَا: الِاتِّبَاعُ وَالدَّعْوَةُ إِلَيْهِ، وَمِنَ الْأَوَّلِ تَشْيِيعُ الْمُسَافِرِ وَتَشْيِيعُ الْجِنَازَةِ، وَمِنَ الثَّانِي قَوْلُهُمْ: أَشَاعَ بِالْإِبِلِ، أَيْ دَعَاهَا إِذَا اسْتَأْخَرَ بَعْضَهَا لِيَتْبَعَ بَعْضُهَا بَعْضًا.
ثَالِثُهَا: التَّقْوِيَةُ وَالتَّهْيِيجُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ شَيَّعَ النَّارَ إِذَا أَلْقَى عَلَيْهَا حَطَبًا يُذْكِيهَا بِهِ، وَالشِّيَاعُ- بِالْفَتْحِ وَالْكَسْرِ- مَا تُضْرَمُ بِهِ النَّارُ، وَكُلُّ هَذِهِ الْمَعَانِي ظَاهِرَةٌ فِي الشِّيَعِ، وَالْأَحْزَابُ الْمُتَفَرِّقَةُ بِالْخِلَافِ فِي الدِّينِ أَوِ السِّيَاسَةِ. وَفَسَّرَ ابْنُ عَبَّاسٍ الشِّيَعَ بِالْأَهْوَاءِ الْمُخْتَلِفَةِ أَيْ أَصْحَابِهَا.
وَقَدْ وَرَدَ فِي الْمَأْثُورِ تَفْسِيرُ الْعَذَابِ مِنْ فَوْقُ بِالرَّجْمِ مِنَ السَّمَاءِ، أَيْ: مِنْ جِهَةِ الْعُلُوِّ- وَكَذَا الطُّوفَانُ- كَمَا وَقَعَ لِبَعْضِ الْأُمَمِ الْقَدِيمَةِ. وَالْعَذَابُ مِنْ تَحْتِ الْأَرْجُلِ بِالْخَسْفِ وَالزَّلَازِلِ الْمَعْهُودَةِ فِي الْقَدِيمِ وَالْحَدِيثِ، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْفَوْقِ أَئِمَّةُ السُّوءِ- أَيِ الْحُكَّامِ وَالرُّؤَسَاءِ- وَبِالتَّحْتِ خَدَمُ السُّوءِ، وَفِي رِوَايَةٍ {مِنْ فَوْقِكُمْ} يَعْنِي أُمَرَاءَكُمْ {أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ} يَعْنِي عَبِيدَكُمْ وَسَفَلَتَكُمْ، وَهَذَا مَعْنًى صَحِيحٌ فِي نَفْسِهِ، وَلَعَلَّ مُرَادَ الْخَبَرِ مِنْهُ أَنَّهُ يَدْخُلُ فِي عُمُومِ مَا تُرْشِدُ إِلَيْهِ الْآيَةُ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْفَوْقِ حَبْسُ الْمَطَرِ، وَبِالتَّحْتِ مَنْعُ الثَّمَرَاتِ، وَهَذَا تَفْسِيرٌ سَلْبِيٌّ، وَالتَّعْبِيرُ عَنْهُ بِالْإِرْسَالِ تَعْبِيرٌ عَنِ الشَّيْءِ بِضِدِّهِ، فَإِنَّ الْإِرْسَالَ ضِدُّ الْمَنْعِ وَالْإِمْسَاكِ وَالْحَبْسِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ} [35: 2] وَلَمَّا كَانَ لَفْظُ الْعَذَابِ فِي الْآيَةِ نَكِرَةً جَازِ حَمْلُهُ عَلَى كُلِّ عَذَابٍ يَأْتِي مِنْ فَوْقِ الرُّءُوسِ وَمِنْ تَحْتِ الْأَرْجُلِ، أَوْ مِنْ رُؤَسَاءِ النَّاسِ أَوْ مِنْ تُحُوتِهِمْ، وَلَوْلَا أَنَّ هَذَا الْإِبْهَامَ مُرَادٌ لِأَجْلِ هَذَا الشُّمُولِ لَصَرَّحَ بِالْمُرَادِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي مِثْلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ} [67: 16، 17] وَحِكْمَةُ مِثْلِ هَذَا الْإِبْهَامِ فِي الْقُرْآنِ أَنْ يَنْطَبِقَ مَعْنَى اللَّفْظِ عَلَى مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ مِمَّا يَحْدُثُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ أَوْ نَكْشِفُ لِلنَّاسِ فِيهِ مَا كَانَ خَفِيًّا عَنْهُمْ، إِذْ وَرَدَ فِي وَصْفِ الْقُرْآنِ أَنَّهُ لَا تَنْتَهِي عَجَائِبُهُ، وَأَنَّ فِيهِ نَبَأَ مَنْ قَبْلِ الَّذِينَ نَزَلَ فِي زَمَانِهِمْ، وَمَنْ كَانَ مَعَهُمْ، وَمَنْ يَجِيءُ بُعْدَهُمْ.
مِثَالُ مَا عَبَّرَ الْقُرْآنُ عَنْهُ وَلَمْ يَنْكَشِفْ لِجُمْهُورِ النَّاسِ انْكِشَافًا تَامًّا إِلَّا بَعْدَ نُزُولِهِ بِقُرُونٍ- كَوْنُ الثِّمَارِ وَغَيْرِهَا أَزْوَاجًا؛ مِنْهَا الذَّكَرُ وَالْأُنْثَى، قَالَ تَعَالَى: {وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ} [13: 3] وَقَالَ: {وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ} [51: 49] وَكَانُوا يَحْمِلُونَ الْآيَاتِ فِي ذَلِكَ عَلَى الْمَجَازِ- وَكَوْنُ الرِّيَاحِ تُلَقِّحُ النَّبَاتَ كَمَا هُوَ صَرِيحٌ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ} [15: 22] وَقَدْ جَعَلَهُ بَعْضُ مُفَسِّرِي السَّلَفِ تَلْقِيحًا مَجَازِيًّا كَقَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه: إِنَّهَا تُلَقِّحُ السَّحَابِ فَيَدِرُّ كَمَا تُدِرُّ اللِّقْحَةُ. نَعَمْ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وَكَذَا الْحَسَنُ: تُلَقِّحُ الشَّجَرَ وَتَمْرِي السَّحَابَ. وَلَكِنَّ هَذَا الْقَوْلَ الْمُقْتَبَسَ مِنَ التَّنْزِيلِ بِنُورِ الْفَهْمِ الصَّحِيحِ لَمْ يَزَلْ خَفِيًّا فِي تَفْصِيلِهِ حَتَّى عَنِ الْعَرَبِ الَّذِينَ كَانُوا يُلَقِّحُونَ النَّخِيلَ- إِلَى أَنِ اكْتَشَفَ النَّاسُ أَعْضَاءَ الذُّكُورَةِ وَالْأُنُوثَةِ فِي النَّبَاتِ وَكَوْنَهَا تُثْمِرُ بِالتَّلْقِيحِ، وَكَوْنَ الرِّيَاحِ تَنْقِلُ مَادَّةَ الذُّكُورَةِ مِنْ ذَكَرِهَا إِلَى أُنْثَاهَا فَتُلَقِّحُهَا بِهِ، وَلَمَّا عَلِمَ الْإِفْرِنْجُ بِهَذَا قَالَ بَعْضُ الْمُطَّلِعِينَ عَلَى الْقُرْآنِ الْمَجِيدِ مِنَ الْمُسْتَشْرِقِينَ مِنْهُمْ: إِنَّ أَصْحَابَ الْإِبِلِ- يَعْنِي الْعَرَبَ- قَدْ عَرَفُوا أَنَّ الرِّيحَ تُلَقِّحُ الْأَشْجَارَ وَالثِّمَارَ قَبْلَ أَنْ يَعْرِفَهَا أَهْلُ أُورُبَّةَ بِثَلَاثَةَ عَشَرَ قَرْنًا.
وَمِثَالُ مَا عَبَّرَ الْقُرْآنُ عَنْهُ مِمَّا شَمِلَ مَا لَمْ يَكُنْ فِي زَمَنِ تَنْزِيلِهِ وَلَا فِيمَا قَبْلَهُ بِحَسَبِ مَا يَعْلَمُ الْبَشَرُ- هَذِهِ الْآيَةُ الَّتِي ظَهَرَ تَفْسِيرُهَا فِي هَذَا الزَّمَانِ بِهَذِهِ الْحَرْبِ الْأُورُبِّيَّةِ الَّتِي لَمْ يَسْبِقْ لَهَا نَظِيرٌ؛ فَقَدْ أَرْسَلَ اللهُ عَلَى الْأُمَمِ عَذَابًا مِنْ فَوْقِهَا بِمَا تَقْذِفُهُ الطَّيَّارَاتُ وَالْمَنَاطِيدُ مِنَ الْمَقْذُوفَاتِ النَّارِيَّةِ وَالسُّمُومِ الْبُخَارِيَّةِ وَالْغَازِيَّةِ الَّتِي لَمْ تُعْرَفْ قَبْلَ هَذِهِ الْحَرْبِ فَوْقَ مَقْذُوفَاتِ الْمَدَافِعِ وَغَيْرِهَا مِمَّا كَانَ مَعْرُوفًا قَبْلَهَا، وَلَكِنْ بَعْدَ تَنْزِيلِ الْآيَةِ- وَعَذَابًا مِنْ تَحْتِهَا بِمَا يَتَفَجَّرُ مِنَ الْأَلْغَامِ النَّارِيَّةِ، وَبِمَا تُرْسِلُهُ الْمَرَاكِبُ الْغَوَّاصَةُ فِي الْبَحْرِ الَّتِي اخْتُرِعَتْ فِي هَذَا الْعَصْرِ، وَلَبَّسَهَا شِيَعًا مُتَعَادِيَةً، وَأَذَاقَ بَعْضَهَا بَأْسَ بَعْضٍ، فَحَلَّ بِهَا مِنَ التَّقْتِيلِ وَالتَّخْرِيبِ مَا لَمْ يُعْهَدْ لَهُ نَظِيرٌ فِي الْأَرْضِ. وَقَدْ شَرَحْنَا هَذَا فِي مَقَالَةٍ نَشَرْنَاهَا فِي الْمَنَارِ. وَلَا شَكَّ فِي أَنَّ دَلَالَةَ الْآيَةِ عَلَى هَذِهِ الْمُخْتَرَعَاتِ مُرَادٌ؛ لِأَنَّ اللهَ تَعَالَى مُنْزِلَ الْقُرْآنِ هُوَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ. وَفِي الْحَدِيثِ الْمَرْفُوعِ مَا يُشِيرُ إِلَى ذَلِكَ؛ فَقَدْ رَوَى أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ قَالَ: سُئِلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ هَذِهِ الْآية: {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ} إِلَى آخِرِهَا، فَقَالَ: أَمَا إِنَّهَا كَائِنَةٌ وَلَمْ يَأْتِ تَأْوِيلُهَا بَعْدُ وَيُقَوِّيهِ مَا وَرَدَ فِي تَطْبِيقِهَا عَلَى أُمَّتِنَا؛ لِأَنَّهُ سُنَّةُ اللهِ فِي أَهْلِ الْكِتَابِ قَبْلَنَا كَمَا يَأْتِي قَرِيبًا.
{انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ} أَيِ انْظُرْ بِعَيْنِ عَقْلِكَ أَيُّهَا الرَّسُولُ- وَمَثَلُهُ فِي هَذَا كُلُّ مُخَاطَبٍ بِالْقُرْآنِ- كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ وَالدَّلَائِلَ فَنَجْعَلُهَا عَلَى أَنْحَاءٍ شَتَّى، مِنْهَا مَا طَرِيقُهُ الْحِسُّ، وَمِنْهَا مَا طَرِيقُهُ الْعَقْلُ، وَمِنْهَا مَا طَرِيقُهُ عِلْمُ الْغَيْبِ- لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ الْحَقَّ، وَيُدْرِكُونَ كُنْهَ الْأَمْرِ، فَإِنَّ الْفِقْهَ هُوَ فَهْمُ الشَّيْءِ بِدَلِيلِهِ وَعِلَّتِهِ، الْمُفْضِي إِلَى الِاعْتِبَارِ وَالْعَمَلِ بِهِ، وَإِنَّمَا يُرْجَى تَحْصِيلُهُ بِتَصَرُّفِ الْآيَاتِ وَتَنْوِيعِ الْبَيِّنَاتِ.
فَعُلِمَ مِمَّا تَقَدَّمَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ عَامَّةٌ وَإِنْ نَزَلَتْ فِي سِيَاقِ إِنْذَارِ مُشْرِكِي مَكَّةَ وَإِقَامَةِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ، فَالْعِبْرَةُ فِيهَا كَغَيْرِهَا بِعُمُومِ اللَّفْظِ لَا بِخُصُوصِ السَّبَبِ أَوْ مُقْتَضَى السِّيَاقِ، كَمَا تَقَرَّرَ فِي الْأُصُولِ، وَقَدْ جَهِلَ هَذَا بَعْضُ الْمُعَمِّمِينَ فَأَنْكَرُوا عَلَيْنَا مُنْذُ أَوَّلِ الْعَهْدِ بِإِنْشَاءِ (الْمَنَارِ).
مَا كُنَّا نُورِدُهُ فِي سِيَاقِ تَذْكِيرِ الْمُسْلِمِينَ مِنَ الْآيَاتِ الَّتِي نَزَلَتْ فِي الْمُشْرِكِينَ وَالْمُنَافِقِينَ. وَمِمَّا يُؤَيِّدُ مَسْلَكَنَا هَذَا مَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَالنَّسَائِيُّ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآية: {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ} قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «أَعُوذُ بِوَجْهِكَ» قَالَ: {أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ} قَالَ: «أَعُوذُ بِوَجْهِكَ» {أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ} قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «هَذَا أَهْوَنُ أَوْ هَذَا أَيْسَرُ» هَذَا لَفْظُ الْبُخَارِيِّ فِي كِتَابِ التَّفْسِيرِ مِنْ صَحِيحِهِ، وَوَقَعَ فِي كِتَابِ الِاعْتِصَامِ مِنْهُ «هَاتَانِ أَهْوَنُ أَوْ أَيْسَرُ»- وَالشَّكُّ مِنَ الرَّاوِيِّ- وَإِنَّمَا كَانَتْ خَصْلَتَا اللَّبْسِ وَإِذَاقَةِ الْبَأْسِ أَهْوَنَ أَوْ أَيْسَرَ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَعَاذَ مِنْهُ قَبْلَهَا هُوَ عَذَابُ الِاسْتِئْصَالِ بِإِحْدَى الْخَصْلَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ بِأَلَّا يَبْقَى مِنَ الْأُمَّةِ أَحَدٌ، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَحَادِيثُ مُتَعَدِّدَةٌ؛ مِنْهَا حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ عِنْدَ أَبِي بَكْرِ بْنِ مَرْدَوَيْهِ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «دَعَوْتُ اللهَ أَنْ يَرْفَعَ عَنْ أُمَّتِي أَرْبَعًا، فَرَفَعَ عَنْهُمُ اثْنَتَيْنِ وَأَبَى أَنْ يَرْفَعَ عَنْهُمُ اثْنَتَيْنِ: دَعَوْتُ اللهَ أَنْ يَرْفَعَ عَنْهُمُ الرَّجْمَ مِنَ السَّمَاءِ وَالْخَسْفَ مِنَ الْأَرْضِ، وَأَلَّا يَلْبِسَهُمْ شِيَعًا، وَلَا يُذِيقَ بَعْضَهُمْ بَأْسَ بَعْضٍ، فَرَفَعَ عَنْهُمُ الْخَسْفَ وَالرَّجْمَ، وَأَبَى أَنْ يَرْفَعَ الْأُخْرَيَيْنِ» وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى عِنْدَهُ عَنْهُ- أَيِ ابْنِ عَبَّاسٍ- قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآية: {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ} قَامَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَتَوَضَّأَ ثُمَّ قَالَ: «اللهُمَّ لَا تُرْسِلْ عَلَى أُمَّتِي عَذَابًا مِنْ فَوْقِهِمْ وَلَا مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَلَا تَلْبِسْهُمْ شِيَعًا وَلَا تُذِقْ بَعْضَهُمْ بَأْسَ بَعْضٍ» قَالَ: فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ قَدْ أَجَارَ اللهُ أُمَّتَكَ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْهِمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِهِمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ. أَيْ: وَلَمْ يُجِرْهُمْ مِنَ الْعَذَابَيْنِ الْآخَرَيْنِ؛ لِأَنَّهُ لابد أَنْ يَتْبَعُوا سُنَنَ مَنْ قَبْلَهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَيَحِلَّ مَا حَلَّ بِهِمْ مِنْ عَذَابِ التَّفَرُّقِ وَالْخِلَافِ، وَذَلِكَ مُقْتَضَى سُنَّتِهِ تَعَالَى فِي عِقَابِ أَتْبَاعِ الرُّسُلِ، يَخْتَلِفُونَ فِي الدِّينِ الْجَامِعِ لِكَلِمَتِهِمْ فَيَكُونُونَ مَذَاهِبَ وَشِيَعًا، وَيَتْبَعُ ذَلِكَ اخْتِلَافُهُمْ فِي السُّلْطَةِ وَالسِّيَاسَةِ أَوْ يَتَقَدَّمُهُ، وَيَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ التَّخَاصُمُ وَالِاقْتِتَالُ الَّذِي نَعْهَدُهُ، وَهَذَا مَعْنَى قَضَاءِ اللهِ فِي حَدِيثِ ثَوْبَانَ الَّذِي يَأْتِي قَرِيبًا.